فصل: سبب النزول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القرطبي: فالله سماها صلاة العشاء فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن تسمى بما سماها الله تعالى به فكأنه نَهْيُ إرشاد إلى ما هو الأولى وليس له جهة التحريم والعرب كانوا يسمونها العتمة وهي الحلبة التي كانوا يحْلِبونها في ذلك الوقت ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم فإنها تعتِم بحلاب الإبل.
أقول: قد ورد تسميتها في الكتاب والسنة بالعشاء فالأفضل الاقتصار على ذلك ففي الحديث الصحيح «من صلى العشاء في جماعة فكأنه قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله». كما اشتهر في الشعر تسميتها بالعشاء قال حسان:
فدع هذا ولكن مَن لِطَيْف ** يؤرقني إذا ذهب العشاء

{طوافون}: جمع طوّاف بالتشديد وهو الذي يدور على أهل البيت للخدمة، والطوافُ في الأصل الدوران ومنه الطواف حول الكعبة، ووصف هؤلاء الخدم بالطواف لأنهم يذهبون في خدمة السادة ويرجعون ومنه الحديث في الهرة «إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات» والمراد في الآية أنهم خدمكم يدخلون ويخرجون عليكم للخدمة فلا حرج عليكم ولا عليهم في الدخول بغير استئذان في غير هذه الأوقات.
{والقواعد}: جمع قاعد بغير هاء، لأنه مختص بالنساء كحائض وطامث.
قال القرطبي: وحذفها يدل على أنه قعودُ الكِبَر كما قالوا امرأة حامل ليدل على أنه حَمل الحَبل، قال الشاعر:
فلو أنّ ما في بطنه بين نسوة ** حبِلنَ وإنْ كنّ القواعدَ عُقّرًا

وقالوا: في غير ذلك قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها.
قال في القاموس: إنها التي قعدت عن الولد وعن الحيض وعن الزوج.
والمراد بهن في الآية: العجائز اللواتي لم يبق لهن مطمع في الأزواج لكبرهن، ولا يرغب فيهن الرجال لعجزهن، فأما من كانت فيها بقية من جمال وهي محل للشهوة فلا تدخل في حكم هذه الآية.
{غَيْرَ متبرجات}: أصل التبرج: التكلف في إظهار ما يخفى من الأشياء ومادة تبرّج تدل على الظهور والانكشاف، ومنه بروج مشيدة وبروج السماء، والمراد بالتبرج في الآية: إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال قال تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى} [الأحزاب: 33].
قال الزمخشري: فإن قلت: ما حقيقة التبرج؟ قلت: تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم: سفينة بارج أي لا غطاء عليها، والبَرَج سعة العين يرى بياضها محيطًا بسوادها كله، لا يغيب منه شيء إلا أنه اختص بأن تنكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها.

.المعنى الإجمالي:

يقول جل ثناؤه ما معناه: يا أيها المؤمنون الذين صدقوا بالله ورسوله وأيقنوا بشريعة الله نظامًا، ودستورًا، ومنهاجًا، ليستأذنْكم في الدخول عليكم هؤلاء العبيد والإماء الذين تملكونهم بملك اليمين، والأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال من الأحرار فلا يدخلوا عليكم في هذه الأوقات الثلاثة وقت الفجر ووقت العشاء إلا بإذن منكم لأن هذه الأوقات أوقات خلودكم إلى النوم والراحة، وهي أوقات يختل فيها تستركم، والتكشف فيها غالب، فعلّموا عبيدكم وخدمكم وصبيانكم ألاّ يدخلوا عليكم في مثل هذه الأوقات إلا بعد الاستئذان، وأما في غير هذه الأوقات فلا إثم ولا حرج عليكم ولا عليهم في الدخول بغير إذن، لأنهم يقومون على خدمتكم والله لا يكلفكم ما فيه حرج أو ضيق عليكم، لأن تشريعه من أجل صالحكم وهو جل وعلا العليم الحكيم.
وأما إذا بلغ هؤلاء الأطفال مبلغ الرجال فعلموهم الأدب السَّامي ألاّ يدخلوا عليكم إلا بعد الاستئذان كما أُمر الكبارُ من قبل، وذلك هو أدب الإسلام الذي ينبغي أن يتمسك به المؤمنون، وأما النساء العجائز اللاتي لا يرغبن في الزواج ولا يطمع فيهن الرجال لكبرهن وقد انعدمت فيهن دوافع الشهوة والفتنة والإغراء، فلا حرج ولا جناح عليهن أن يضعن بعض ثيابهن كالرداء والجلباب ويظهَرْنَ أمام الرجال بملابسهنَّ المعتادة التي لا تلفت انتباهًا، ولا تثير شهوة.
وإذا بالغن في التستر والتعفف ولبسن الجلباب الذي تلبسه الشابات من النساء فذلك خير لهن وأكرم، وأزكى عند الله وأطهر، والله يعلم خفايا النفوس، ومجازٍ كلّ إنسانٍ على ما قدَّم فاتقوه واجتنبوا سخطه وعقابه.

.سبب النزول:

أولًا: روي أن أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} الآية. وروي عن مقاتل بن حيّان أنه قال: بلغنا أن رجلًا من الأنصار وامرأته أسماء بنت أبي مرثد صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعامًا، فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا؟ إنه ليدخل على المرأة وزوجها غلامهما وهما في ثوب واحد بغير إذن، فأنزل الله في ذلك هذه الآية يعني بها العبيد والإماء.
ثانيًا: وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلامًامن الأنصار يقال له مُدْلج إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فوجده نائمًا، قد أغلق عليه الباب فدقّ عليه الغلام الباب فناداه ودخل فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء، فقال عمر وددت أنّ اللَّهَ نهى أبناءنا ونساءنا، وخدمنا عن الدخول في هذه الساعات إلاّ بإذن ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت فخرّ ساجدًا شكرًا لله تعالى.
قال الألوسي: وهذا احد موافقات رأيه الصائب رضي الله عنه للوحي.
ثالثًا: وروى ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن فذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ} الآية.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {مِنكُمْ} يدل على أن المراد به الأطفال من الأحرار، لأن الله سبحانه قد ذكر العبيد والإماء بقوله: {مَلَكَتْ أيمانكم} ثم عقّب ذلك بقوله: {منكم} فدلت هذه المقابلة على أن المراد به الصغار من الأحرار.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {ثلاث مرات} ليس المقصود الاستئذان ثلاث مرات، وإنما المراد به في ثلاثة أوقات بدليل ذكره تعالى الأوقات بعدها الظهيرة، العشاء، والفجر وهي أوقات الراحة والنوم. قال أبو السعود: والتعبير عن الأوقات بالمرات للإيذان بأنّ مدار وجوب الاستئذان مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا أنفسها.
اللطيفة الثالثة: قوله تعالى: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة} صرّح تعالى في هذا الوقت بخلع الثياب وهو وقت القيلولة وعبّر بقوله: {حين} للإشارة بقلة زمانها ولم يذكر وضع الثياب في الوقتين الآخيرين العشاء والفجر وفي ذلك إشارة إلى أن أمرهما ظاهر بيّن لا يحتاج إلى تصريح، فإذا كان وقت الظهيرة لا يحل الدخول فيه إلا بعد الاستئذان فوقت العشاء والفجر من باب أولى، لأنهما وقت الخلود إلى الراحة والنوم، والتكشفُ فيهما غالب.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {ثلاث عورات لَّكُمْ} إطلاق العورات على الأوقات الثلاثة التي يكثر فيها التكشف للمبالغة حتى كأن هذه الأوقات هي نفسها عورات، والجملة مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان فكأن الله تعالى يقول هذه هي أوقات ظهور العورات فلا تدخلوا إلا بعد الاستئذان وفي التعبير من المبالغة ما فيه.
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {والقواعد مِنَ النساء} المراد بها العجائز كما أسلفنا قال ابن قتيبة: سميت العجائز قواعد لأنهن يكثرن من القعود في البيت لكبر سنهن قال الشاعر:
أُطوِّفُ ما أطوّف ثم آوي ** إلى بيت قعيدته لَكَاع

وقال ابن ربيعة: سميت العجائز قواعد لقعودهن عن الاستمتاع حيث أيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج، ويدل عليه قوله تعالى: {اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا}.
اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} ليس المقصود بذلك أن يضعن جميع ثيابهن وإنما المراد بعضها كالجلباب والرداء وهي الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها لكشف العورة، فهو من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء ويسميه علماء البلاغة المجاز المرسل.
اللطيفة السابعة: قوله تعالى: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} قال بعض العلماء: إذا كان استعفاف العجائز عن وضع الثياب خيرًا لهن فما ظنك بذوات الزينة من الشواب؟ وأبلغ من هذا أن التستر والتحفظ إذا كان مطلوبًا من القواعد فكيف بالكواعب؟!
والمرأة ولو كانت عجوزًا لا تشتهي فإنّ بعض النفوس قد تميل إليها وتشتهيها ولهذا ينبغي لها الاستعفاف. وفي الأمثال لكل ساقطة لاقطة وقد قال الشاعر في هذا المعنى:
لكل ساقطةٍ في الحي لاقطة ** وكلّ كاسدةٍ يومًا لها سوق

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: من المخاطب في الآية الكريمة؟

ظاهر قوله تعالى: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ} أنه خطاب للرجال، وقد قال المفسرون: إنّ الآية نزلت في أسماء بنت أبي مرثد فيكون المراد فيها الرجال والنساء لأن التذكير يغلب التأنيث.
ودخولُ سبب النزول في الحكم قطعي كما هو الراجح في الأصول فيكون الخطاب للرجال والنساء بطريق التغليب.
وقال الفخر الرازي: والأولى عندي أن الحكم ثابت في النساء بقياس جلي وذلك لأن النساء في باب حفظ العورة أشد حالًا من الرجال، فهذا الحكم لمَّا ثبت في الرجال فثبوتهُه في النساء بطريق الأولى، كما أنَّا نثبت حرمة الضرب بالقياس الجلي على حرمة التأفيف.
وقال أبو السعود: والخطاب إما للرجال خاثة، والنساءُ داخلات في الحكم بدلالة النص أو للفريقين جميعًا بطريق التغليب.
أقول: اختار بعض المفسرين رأيًا آخر خلاصته: أن قوله تعالى: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ} ليس خطابًا للذكور بطريق التغليب وإنما هو خطاب لكل من اتصف بالإيمان رجلًا كان أن امرأة فيدخل فيه الرجال والنساء معًا ويكون المعنى يا من اتصفتم بالإيمان وصدقتم الله ورسوله ليستأذنْكم في الدخول عليكم عبيدكم وإماؤكم.. إلخ، ولعل هذا الرأي أوجه فكل نداء بالإيمان يراد منه الوصف فيشمل الذكور والإناث والله أعلم.

.الحكم الثاني: ما المراد بقوله: {مَلَكَتْ أيمانكم} في الآية الكريمة؟

المراد به العبيد والإماء وظاهر قوله تعالى: {الذين مَلَكَتْ أيمانكم} أن الحكم خاص بالذكور، سواء أكانوا كبارًا أم صغارًا، وبهذا الظاهر قال ابن عمر ومجاهد.
والجمهور على أنه عام في الذكور والإناث من الأرقاء الكبار منهم والصغار وهو الصحيح الذي اختاره الطبري وجمهور المفسرين.
فكما أن الأطفال الصغار لا يحسن دخولهم بدون استئذان على الكبار في أوقات الخلوة، فكذلك لا يحسن دخول الخادم الأنثى، لأن هذه الأوقات أوقات تكشُّف في الغالب، والإنسان كما يكره اطلاع الذكور على أحواله فقد يكره اطلاع النساء عليها كذلك.
قال ابن جرير الطبري: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال عني به الذكور والإناث لأن الله عمّ بقوله: {الذين مَلَكَتْ أيمانكم} جميع أملاكِ أيماننا ولم يخصص منهم ذكرًا ولا أنثى فذلك على جميع من عمّه ظاهر التنزيل.

.الحكم الثالث: كيف يخاطب الصغار ولا تكليف قبل البلوغ؟

الخطاب وإن كان ظاهره للصغار الذين لم يبلغوا الحلم، إلا أنَّ المراد به الكبار، فقد أمر الله الرجال أن يعلِّموا مماليكهم وخدمهم وصبيانهم، ألاّ يدخلوا عليهم إلا بعد الاستئذان، فهو في الظاهر متوجه للصغار وفي الحقيقة للمكلفين الكبار، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» وكقولك: للرجل: لِيَخَفْك أهلُكَ وولَدُك، فظاهر الأمر لهم وحقيقةً الأمر له بفعل ما يخافون عنده.

.الحكم الرابع: هل الاستئذان على سبيل الوجوب أو الندب؟

ظاهر الأمر في قوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} أنه للوجوب وبهذا الظاهر قال بعض العلماء. والجمهورُ على أنه أمر استحباب وندب وأنه من باب التعليم والإرشاد إلى محاسن الآداب. فالبالغُ يستأذنُ في كلّ وقت، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث.
وقد رُويَ عن ابن عباس أنه قال: آيةٌ لا يؤمنُ بها أكثر الناس: آية الإذن، وإني لآمر جاريتي أن تستأذن علي وأشار إلى جارية عنده صغيرة.
والآية محكمة لم ينسخها شيء على رأي الجمهور، وزعم بعضهم أنها منسوخة لأن عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول كان جاريًا على خلافه. وقال آخرون: إنما كان هذا في العصر الأول لأنه لم تكن لهم أبواب تغلق ولا ستور تُرْخى واستدلوا بما رواه عكرمة أن نفرًا من أهل العراق قالوا: يا ابن عباس: كيف ترى هذه الآية التي أُمِرْنا فيها بما أُمِرْنا، ولا يعمل بها أحد؟ قوله تعالى: {يا أيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ}.
قال ابن عباس: إنّ الله حليم رحيم بالمؤمنين، يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم سترٌ ولا حجاب، فربما دخل الخادم، أو الولد، أو يتيمة الرجل، والرجلُ على أهله، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحدًا يعمل بذك بعد.. والصحيح أن الآية ليست بمنسوخة كما قال القرطبي: وكلامُ ابن عباس لا يدل على النسخ، فالأمر بالاستئذان عنده كان متعلقًا بسبب فلما زال السبب زال الحكم. وهذا يدل على أنه النسخ، فالأمر بالاستئذان عنده كان متعلقًا بسبب فلما زال السبب زال الحكم. وهذا يدل على أنه لم ير الآية منسوخة، وأنَّ مثل ذلك السبب لو عاد لعاد الحكم وهذا ليس بنسخ.